فصل: الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي نِصَابِ الْغَنَمِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بداية المجتهد ونهاية المقتصد (نسخة منقحة)



.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [إِذَا عَدِمَ السِّنَّ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - وَهُوَ إِذَا عَدِمَ السِّنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْإِبِلِ الْوَاجِبَةِ، وَعِنْدَهُ السِّنُّ الَّذِي فَوْقَ هَذَا السِّنِّ أَوْ تَحْتَهُ: فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ ذَلِكَ السِّنِّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُعْطِي السِّنَّ الَّذِي عِنْدَهُ وَزِيَادَةَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا إِنْ كَانَ السِّنُّ الَّذِي عِنْدَهُ أَحَطَّ أَوْ شَاتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ أَعْلَى دَفَعَ إِلَيْهِ الْمُصَّدِّقُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ شَاتَيْنِ، وَهَذَا ثَابِتٌ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ، فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَازَعَةِ فِيهِ، وَلَعَلَّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ هَذَا الْحَدِيثُ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ؛ عَلَى أَصْلِهِ فِي إِخْرَاجِ الْقِيَمِ فِي الزَّكَاةِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُعْطِي السِّنَّ الَّذِي عِنْدَهُ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنَ الْقِيمَةِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [هَلْ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي صِغَارِ الْإِبِلِ؟

]:
وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ - وَهِيَ هَلْ تَجِبُ فِي صِغَارِ الْإِبِلِ زكاتها، وَإِنْ وَجَبَتْ فَمَاذَا يُكَلَّفُ؟
- فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَقَوْمٌ قَالُوا: لَا تَجِبُ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ يَتَنَاوَلُ اسْمُ الْجِنْسِ الصِّغَارَ أَوْ لَا يَتَنَاوَلُهُ. وَالَّذِينَ قَالُوا: لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةٌ هُوَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَدِ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ سُوِيدِ بْنِ غَفَلَةَ أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا مُصَدِّقُ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَتَيْتُهُ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي عَهْدِي أَنْ لَا آخُذَ مِنْ رَاضِعِ لَبَنٍ، وَلَا أَجْمَعَ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا نُفَرِّقَ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ، قَالَ: وَأَتَاهُ رَجُلٌ بِنَاقَةٍ كَوْمَاءَ فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهَا. وَالَّذِينَ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِيهَا مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُكَلَّفُ شِرَاءَ السِّنِّ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَأْخُذُ مِنْهَا وَهُوَ الْأَقْيَسُ. وَبِنَحْوِ هَذَا الِاخْتِلَافِ اخْتَلَفُوا فِي صِغَارِ الْبَقَرِ وَسِخَالِ الْغَنَمِ.

.الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي نِصَابِ الْبَقَرِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ:

جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنْ فِي ثَلَاثِينَ مِنَ الْبَقَرِ تَبِيعًا، وَفِي أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فِي كُلِّ عَشْرٍ مِنَ الْبَقَرِ شَاةٌ إِلَى ثَلَاثِينَ فَفِيهَا تَبِيعٌ. وَقِيلَ: إِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ فَفِيهَا بَقَرَةٌ إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ فَفِيهَا بَقَرَتَانِ إِذَا جَاوَزَتْ ذَلِكَ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بَقَرَةٌ، وَهَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالسِتِّينَ: فَذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَجَمَاعَةٌ أَنْ لَا شَيْءَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِينَ حَتَّى تَبْلُغَ السِّتِّينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ سِتِّينَ فَفِيهَا تَبِيعَانِ إِلَى سَبْعِينَ، فَفِيهَا مُسِنَّةٌ وَتَبِيعٌ إِلَى ثَمَانِينَ، فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ إِلَى تِسْعِينَ، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ إِلَى مِائَةٍ، فَفِيهَا تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٍ، ثُمَّ هَكَذَا مَا زَادَ، فَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ فِي النِّصَابِ: أَنَّ حَدِيثَ مُعَاذٍ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَى صِحَّتِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ. وَسَبَبُ اخْتِلَافِ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ فِي الْوَقْصِ فِي الْبَقَرِ: أَنَّهُ جَاءَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ هَذَا أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِي الْأَوْقَاصِ وَقَالَ: حَتَّى أَسْأَلَ فِيهَا النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ وَجَدَهُ قَدْ تُوُفِّيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ نَصٌّ طَلَبَ حُكْمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ، فَمَنْ قَاسَهَا عَلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ لَمْ يَرَ فِي الْأَوْقَاصِ شَيْئًا، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَوْقَاصِ الزَّكَاةُ إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الدَّلِيلُ مِنْ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ فِي الْبَقْرِ وَقْصٌ، إِذْ لَا دَلِيلَ هُنَالِكَ مِنْ إِجْمَاعٍ وَلَا غَيْرِهِ.

.الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي نِصَابِ الْغَنَمِ وَقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ ذَلِكَ:

وَأَجْمَعُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ عَلَى أَنَّ فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ إِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْعِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَفِيهَا شَاتَانِ إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَثَلَاثُ شِيَاهٍ إِلَى ثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى الثَّلَاثِمِائَةِ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا الْحَسَنَ بْنَ صَالِحٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَتِ الْغَنَمُ ثَلَاثَمِائَةِ شَاةٍ وَشَاةً وَاحِدَةً أَنَّ فِيهَا أَرْبَعَ شِيَاهٍ، وَإِذَا كَانَتْ أَرْبَعَمِائَةِ شَاةٍ وَشَاةً فَفِيهَا خَمْسُ شِيَاهٍ، وَرُوِيَ قَوْلُهُ هَذَا عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، وَالْآثَارُ الثَّابِتَةُ الْمَرْفُوعَةُ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا قَالَ الْجُمْهُورُ. وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَعْزَ تُضَمُّ مَعَ الْغَنَمِ، وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَيِّ صِنْفٍ مِنْهَا يَأْخُذُ الْمُصَدِّقُ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَأْخُذُ مِنَ الْأَكْثَرِ عَدَدًا، فَإِنِ اسْتَوَتْ خَيَّرَ السَّاعِيَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: بَلِ السَّاعِي يُخَيَّرُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَصْنَافُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْخُذُ الْوَسَطَ مِنَ الْأَصْنَافِ الْمُخْتَلِفَةِ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: (نَعُدُّ عَلَيْهِمُ السَّخْلَةَ يَحْمِلُهَا الرَّاعِي وَلَا نَأْخُذُهَا، وَلَا نَأْخُذُ الْأَكُولَةَ وَلَا الرُّبَّى وَلَا الْمَاخِضَ وَلَا فَحْلَ الْغَنَمِ، وَنَأْخُذُ الْجَذَعَةَ وَالثَّنِيَّةَ) وَذَلِكَ عَدْلٌ بَيْنَ خِيَارِ الْمَالِ وَوَسَطِهِ. وَكَذَلِكَ اتَّفَقَ جَمَاعَةُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ وَلَا ذَاتُ عَوَرٍ لِثُبُوتِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ، إِلَّا أَنْ يَرَى الْمُصَدِّقُ أَنَّ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلْمَسَاكِينِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَمْيَاءِ وَذَاتِ الْعِلَّةِ هَلْ تُعَدُّ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَمْ لَا؟
فَرَأَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ أَنْ تُعَدَّ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا لَا تُعَدُّ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ مُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْأَصِحَّاءَ وَالْمَرْضَى أَمْ لَا يَتَنَاوَلُهُمَا؟
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي نَسْلِ الْأُمَّهَاتِ هَلْ تُعَدُّ مَعَ الْأُمَّهَاتِ فَيَكْمُلُ النِّصَابُ بِهَا إِذَا لَمْ تَبْلُغُ نِصَابًا؟
فَقَالَ مَالِكٌ: يُعْتَدُّ بِهَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يُعْتَدُّ بِالسِّخَالِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: احْتِمَالُ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذْ أَمَرَ أَنْ تُعْتَدَّ عَلَيْهِمْ بِالسِّخَالِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا شَيْءٌ، فَإِنَّ قَوْمًا فَهِمُوا مِنْ هَذَا إِذَا كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا، وَقَوْمٌ فَهِمُوا هَذَا مُطْلَقًا، وَأَحْسَبُ أَنَّ أَهْلَ الظَّاهِرِ لَا يُوجِبُونَ فِي السِّخَالِ شَيْئًا، وَلَا يَعُدُّونَ بِهَا لَوْ كَانَتِ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا عِنْدَهُمْ. وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الزَّكَاةِ. وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِذَلِكَ هَلْ لَهَا تَأْثِيرٌ فِي قَدْرِ النِّصَابِ أَمْ لَا؟
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَلَمْ يَرَوْا لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا، لَا فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ وَلَا فِي قَدْرِ النِّصَابِ، وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ: أَنَّ مَالِكًا وَالشَّافِعِيَّ وَأَكْثَرَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنِ الْخُلَطَاءَ يُزَكُّونَ زَكَاةَ الْمَالِكِ الْوَاحِدِ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: فِي نِصَابِ الْخُلَطَاءِ هَلْ يُعَدُّ نِصَابَ مَالِكٍ وَاحِدٍ، سَوَاءً كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ؟
أَمْ إِنَّمَا يُزَكُّونَ زَكَاةَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ؟
وَالثَّانِي: فِي صِفَةِ الْخُلْطَةِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي ذَلِكَ.
وَأَمَّا اخْتِلَافُهُمْ أَوَّلًا فِي هَلْ لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرٌ فِي النِّصَابِ وَفِي الْوَاجِبِ أَوْ لَيْسَ لَهَا تَأْثِيرٌ؟
فَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي مَفْهُومِ مَا ثَبَتَ فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ، وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ». فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ أَنْزَلَ مَفْهُومَ هَذَا الْحَدِيثِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ رَأَوْا لِلْخُلْطَةِ تَأْثِيرًا مَا فِي النِّصَابِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ أَوْ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ فَقَطْ قَالُوا: إِنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» وَقَوْلَهُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْخَلِيطَيْنِ زكاته كَمِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ هَذَا الْأَثَرَ مُخَصِّصٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خُمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الْإِبِلِ صَدَقَةٌ» إِمَّا فِي الزَّكَاةِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ - أَعْنِي: فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ -، وَإِمَّا فِي الزَّكَاةِ وَالنِّصَابِ مَعًا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَمْ يَقُولُوا بِالْخُلْطَةِ فَقَالُوا: إِنَّ الشَّرِيكَيْنِ قَدْ يُقَالُ لَهُمَا خَلِيطَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» إِنَّمَا هُوَ نَهْيٌ لِلسُّعَاةِ أَنْ يُقَسَّمَ مِلْكُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ قِسْمَةً تُوجِبُ عَلَيْهِ كَثْرَةَ الصَّدَقَةِ، مِثْلُ رَجُلٍ يَكُونُ لَهُ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ شَاةً فَيُقَسِّمُ عَلَيْهِ إِلَى أَرْبَعِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ يَجْمَعُ مِلْكَ رَجُلٍ وَاحِدٍ إِلَى مِلْكِ رَجُلٍ آخَرَ حَيْثُ يُوجِبُ الْجَمْعُ كَثْرَةَ الصَّدَقَةِ قَالُوا: وَإِذَا كَانَ هَذَا الِاحْتِمَالُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَجَبَ أَنْ لَا تُخَصَّصَ بِهَزِّ الْأُصُولِ الثَّابِتَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا - أَعْنِي: أَنَّ النِّصَابَ وَالْحَقَّ الْوَاجِبَ فِي الزَّكَاةِ يُعْتَبَرُ بِمِلْكِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ -.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِالْخُلْطَةِ، فَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ الْخُلْطَةِ هُوَ أَظْهَرُ فِي الْخُلْطَةِ نَفْسِهَا مِنْهُ فِي الشَّرِكَةِ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِيهِمَا: «إِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا حُكْمُهُ حُكْمُ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِنَّهُمَا يَتَرَاجَعَانِ بِالسَّوِيَّةِ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ لَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ، لِأَنَّ الشَّرِيكَيْنِ لَيْسَ يُتَصَوَّرُ بَيْنَهُمَا تَرَاجُعٌ إِذِ الْمَأْخُوذُ هُوَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ. فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْمَفْهُومِ وَلَمْ يَقِسْ عَلَيْهِ النِّصَابَ قَالَ: الْخَلِيطَانِ إِنَّمَا يُزَكِّيَانِ زَكَاةَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ إِذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابٌ، وَمَنْ جَعَلَ حُكْمَ النِّصَابِ تَابِعًا لِحُكْمِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ قَالَ: نِصَابُهُمَا نِصَابُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، كَمَا أَنَّ زَكَاتَهُمَا زَكَاةُ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْزَلَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ. فَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» أَنَّ الْخَلِيطَيْنِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ شَاةٍ وَشَاةٌ، فَتَكُونُ عَلَيْهِمَا فِيهِمَا ثَلَاثَةُ شِيَاهٍ، فَإِذَا افْتَرَقَا كَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «لَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ» أَنْ يَكُونَ النَّفَرُ الثَّلَاثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِذَا جَمَعُوهَا كَانَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ وَاحِدَةٌ، فَعَلَى مَذْهَبِهِ النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ مُتَّجِهٌ نَحْوَ الْخُلَطَاءِ الَّذِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابٌ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: «وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ» أَنْ يَكُونَ رَجُلَانِ لَهُمَا أَرْبَعُونَ شَاةً، فَإِذَا فَرَّقَا غَنَمَهُمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمَا فِيهَا زَكَاةٌ، إِذْ كَانَ نِصَابُ الْخُلَطَاءِ عِنْدَهُ نِصَابَ مِلْكٍ وَاحِدٍ فِي الْحُكْمِ.
وَأَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْخُلْطَةِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيمَا هِيَ الْخُلْطَةُ الْمُؤَثِّرَةُ بِالزَّكَاةِ: فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ شَرْطِ الْخُلْطَةِ أَنْ تَخْتَلِطَ مَاشِيَتُهُمَا وَتُرَاحَا لِوَاحِدٍ وَتُحْلَبَا لِوَاحِدٍ، وَتُسَرَّحَا لِوَاحِدٍ، وَتُسْقَيَا مَعًا، وَتَكُونَ فَحَوْلُهُمَا مُخْتَلِطَةً. وَلَا فَرْقَ عِنْدَهُ بِالْجُمْلَةِ وَالشَّرِكَةِ وَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّرِيكَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَأَمَّا مَالِكٌ: فَالْخَلِيطَانِ عِنْدَهُ مَا اشْتَرَكَا فِي الدَّلْوِ وَالْحَوْضِ وَالْمُرَاحِ وَالرَّاعِيِ وَالْفَحْلِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي مُرَاعَاةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ أَوْ جَمِيعِهَا. وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ: اشْتِرَاكُ اسْمِ الْخُلْطَةِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرَ قَوْمٌ تَأْثِيرَ الْخُلْطَةِ فِي الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الْأَنْدَلُسِيِّ.

.الْفَصْلُ الْخَامِسُ فِي نِصَابِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالْقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ:

وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْحُبُوبِ من الزكاة: أَمَّا مَا سُقِيَ بِالسَّمَاءِ فَالْعُشْرُ، وَأَمَّا مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ فَنِصْفُ الْعُشْرِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَمَّا النِّصَابُ: فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِهِ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ، فَصَارَ الْجُمْهُورُ إِلَى إِيجَابِ النِّصَابِ فِيهِ وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ، وَالْوَسْقُ: سِتُّونَ صَاعًا بِإِجْمَاعٍ، وَالصَّاعُ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّ النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ مُدَّهُ رِطْلٌ وَثُلُثٌ وَزِيَادَةٌ يَسِيرَةٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ حِينَ نَاظَرَهُ مَالِكٌ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْعِرَاقِ لِشَهَادَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ فِي الْمُدِّ إِنَّهُ رِطْلَانِ، وَفِي الصَّاعِ إِنَّهُ ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ نِصَابٌ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: مُعَارَضَةُ الْعُمُومِ لِلْخُصُوصِ. أَمَّا الْعُمُومُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ».
وَأَمَّا الْخُصُوصُ: فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَالْحَدِيثَانِ ثَابِتَانِ. فَمَنْ رَأَى الْخُصُوصَ يَبْنِي عَلَى الْعُمُومِ قَالَ: لَا بُدَّ مِنَ النِّصَابِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَمَنْ رَأَى أَنَّ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ مُتَعَارِضَانِ إِذَا جَهِلَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِمَا وَالْمُتَأَخِّرَ إِذْ كَانَ قَدْ يُنْسَخُ الْخُصُوصُ بِالْعُمُومِ عِنْدَهُ، وَيُنْسَخُ الْعُمُومُ بِالْخُصُوصِ، إِذْ كُلُّ مَا وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ جَازَ نَسْخُهُ، وَالنَّسْخُ قَدْ يَكُونُ لِلْبَعْضِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْكُلِّ، وَمَنْ رَجَّحَ الْعُمُومَ قَالَ: لَا نِصَابَ. وَلَكِنَّ حَمْلَ الْجُمْهُورِ عِنْدِي الْخُصُوصَ عَلَى الْعُمُومِ هُوَ مِنْ بَابِ تَرْجِيحِ الْخُصُوصِ عَلَى الْعُمُومِ فِي الْجُزْءِ الَّذِي تَعَارَضَا فِيهِ، فَإِنَّ الْعُمُومَ فِيهِ ظَاهِرٌ وَالْخُصُوصَ فِيهِ نَصٌّ، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي صَيَّرَ الْجُمْهُورَ إِلَى أَنْ يَقُولُوا: بَنَى الْعَامَّ عَلَى الْخَاصِّ وَعَلَى الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بُنْيَانًا، فَإِنَّ التَّعَارُضَ بَيْنَهُمَا مَوْجُودٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْخُصُوصُ مُتَّصِلًا بِالْعُمُومِ فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءً، وَاحْتِجَاجُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي النِّصَابِ بِهَذَا الْعُمُومِ فِيهِ ضَعْفٌ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا خَرَجَ مَخْرَجَ تَبْيِينِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْهُ. وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي النِّصَابِ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فِي ضَمِّ الْحُبُوبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ فِي النِّصَابِ.
الثَّانِيَةُ: فِي جَوَازِ تَقْدِيرِ النِّصَابِ فِي الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ بِالْخَرْصِ.
الثَّالِثَةُ: هَلْ يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا يَأْكُلُهُ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ قَبْلَ الْحَصَادِ وَالْجَذَاذِ فِي النِّصَابِ أَمْ لَا؟

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [ضَمُّ الْحُبُوبِ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ]:

أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الصِّنْفَ الْوَاحِدَ مِنَ الْحُبُوبِ وَالثَّمَرِ يُجْمَعُ جِيِّدُهُ إِلَى رَدِيئِهِ، وَتُؤْخَذُ الزَّكَاةُ عَنْ جَمِيعِهِ بِحَسَبِ قَدْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - أَعْنِي: مِنَ الْجَيِّدِ والرَّدِئِ -، فَإِنْ كَانَ الثَّمَرُ أَصْنَافًا أُخِذَ مِنْ وَسَطِهِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي ضَمِّ الْقَطَانِيِّ بَعْضِهَا إِلَى بَعْضٍ في الزكاة، وَفِي ضَمِّ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ فَقَالَ مَالِكٌ: الْقِطْنِيَّةُ كُلُّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ، الْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ أَيْضًا.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجَمَاعَةٌ: الْقَطَانِيُّ كُلُّهَا أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ أَسْمَائِهَا، وَلَا يُضَمُّ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَى غَيْرِهِ فِي حِسَابِ النِّصَابِ، وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالْحِنْطَةُ عِنْدَهُمْ أَصْنَافٌ ثَلَاثَةٌ لَا يُضَمُّ وَاحِدٌ مِنْهَا إِلَى الْآخَرِ لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ.
وَسَبَبُ الْخِلَافِ: هَلِ الْمُرَاعَاةُ فِي الصِّنْفِ الْوَاحِدِ هُوَ اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ أَوِ اتِّفَاقُ الْأَسْمَاءِ؟
فَمَنْ قَالَ: اتِّفَاقُ الْأَسْمَاءِ، قَالَ: كُلَّمَا اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا فَهِيَ أَصْنَافٌ كَثِيرَةٌ، وَمَنْ قَالَ: اتِّفَاقُ الْمَنَافِعِ، قَالَ: كُلَّمَا اتَّفَقَتْ مَنَافِعُهَا فَهِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَسْمَاؤُهَا. فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرُومُ أَنْ يُقَرِّرَ قَاعِدَتَهُ بِاسْتِقْرَاءِ الشَّرْعِ - أَعْنِي: أَنَّ أَحَدَهُمَا يَحْتَجُّ لِمَذْهَبِهِ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي اعْتَبَرَ فِيهَا الشَّرْعُ الْأَسْمَاءَ، وَالْآخَرُ بِالْأَشْيَاءِ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِيهَا الْمَنَافِعَ -، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ شَهَادَةُ الشَّرْعِ لِلْأَسْمَاءِ فِي الزَّكَاةِ أَكْثَرَ مِنْ شَهَادَتِهِ لِلْمَنَافِعِ، وَإِنْ كَانَ كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ مَوْجُودًا فِي الشَّرْعِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [تَقْدِيرُ النِّصَابِ بِالْخَرْصِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ - وَهِيَ تَقْدِيرُ النِّصَابِ بِالْخَرْصِ وَاعْتِبَارُهُ بِهِ دُونَ الْكَيْلِ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى إِجَازَةِ الْخَرْصِ فِي النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ حِينَ يَبْدُو صَلَاحُهَا لِضَرُورَةِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَهْلِهَا يَأْكُلُونَهَا رُطَبًا. وَقَالَ دَاوُدُ: لَا خَرْصَ إِلَّا فِي النَّخِيلِ فَقَطْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ: الْخَرْصُ بَاطِلٌ، وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُؤَدِّيَ عُشْرَ مَا تَحَصَّلَ بِيَدِهِ زَادَ عَلَى الْخَرْصِ أَوْ نَقَصَ مِنْهُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ فِي جَوَازِ الْخَرْصِ: مُعَارَضَةُ الْأُصُولِ لِلْأَثَرِ الْوَارِدِ فِي ذَلِكَ. أَمَّا الْأَثَرُ الْوَارِدُ فِي ذَلِكَ - وَهُوَ الَّذِي تَمَسَّكَ بِهِ الْجُمْهُورُ - فَهُوَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْسِلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ».
وَأَمَّا الْأُصُولُ الَّتِي تُعَارِضُهُ: فَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمُزَابَنَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا - وَهُوَ بَيْعُ الثَّمَرِ فِي رُءُوسِ النَّخْلِ بِالثَّمَرِ كَيْلًا -، وَلِأَنَّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً، فَيَدْخُلُهُ الْمَنْعُ مِنَ التَّفَاضُلِ وَمِنَ النَّسِيئَةِ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أُصُولِ الرِّبَا، فَلَمَّا رَأَى الْكُوفِيُّونَ هَذَا مَعَ أَنَّ الْخَرْصَ الَّذِي كَانَ يُخْرَصُ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ لَمْ يَكُنْ لِلزَّكَاةِ، إِذْ كَانُوا لَيْسُوا بِأَهْلِ زَكَاةٍ، قَالُوا: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَخْمِينًا لِيُعْلَمَ مَا بِأَيْدِي كُلِّ قَوْمٍ مِنَ الثِّمَارِ. قَالَ الْقَاضِي: أَمَّا بِحَسَبِ خَبَرِ مَالِكٍ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْقِسْمَةِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ كَانَ إِذَا فَرَغَ مِنَ الْخَرْصِ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي - أَعْنِي: فِي قِسْمَةِ الثِّمَارِ لَا فِي قِسْمَةِ الْحَبِّ.
وَأَمَّا بِحَسَبِ حَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ: فَإِنَّمَا الْخَرْصُ لِمَوْضِعِ النَّصِيبِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، وَالْحَدِيثُ هُوَ: أَنَّهَا قَالَتْ - وَهِيَ تَذْكُرُ شَأْنَ خَيْبَرَ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ فَيَخْرُصُ عَلَيْهِمُ النَّخْلَ حِينَ يَطِيبُ قَبْلَ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْهُ». وَخَرْصُ الثِّمَارِ لَمْ يُخَرِّجْهُ الشَّيْخَانِ، وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْخَرْصُ مُسْتَثْنًى مِنْ تِلْكَ الْأُصُولِ، هَذَا إِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ كَانَ مِنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حُكْمًا مِنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ الْحُكْمَ لَوْ ثَبَتَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَيْسَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ إِلَّا بِدَلِيلٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ صَحَّ حَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ لَكَانَ جَوَازُ الْخَرْصِ بَيِّنًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ هُوَ أَنَّهُ قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَخُرْصَ الْعِنَبَ وَآخُذَ زَكَاتَهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤْخَذُ زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا». وَحَدِيثُ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ طُعِنَ فِيهِ، لِأَنَّ رَاوِيَهُ عَنْهُ هُوَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُجِزْ دَاوُدُ خَرْصَ الْعِنَبِ. وَاخْتَلَفَ مَنْ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي الزَّيْتُونِ فِي جَوَازَ خَرْصِهِ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي قِيَاسِهِ فِي ذَلِكَ عَلَى النَّخْلِ وَالْعِنَبِ، وَالْمُخْرَجُ عِنْدَ الْجَمِيعِ مِنَ النَّخْلِ فِي الزَّكَاةِ هُوَ التَّمْرُ لَا الرُّطَبُ، وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ مِنَ الْعِنَبِ لَا الْعِنَبُ نَفْسُهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الزَّيْتُونِ هُوَ الزَّيْتُ لَا الْحَبُّ قِيَاسًا عَلَى التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْعِنَبِ الَّذِي لَا يَتَزَبَّبُ وَالزَّيْتُونِ الَّذِي لَا يَنْعَصِرُ: أَرَى أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ حَبًّا.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [هَلْ يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا يَأْكُلُهُ قَبْلَ الْحَصَادِ فِي النِّصَابِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ قَالَا: يُحْسَبُ عَلَى الرَّجُلِ مَا أَكَلَ مِنْ ثَمَرِهِ وَزَرْعِهِ قَبْلَ الْحَصَادِ احتسابه على المالك فِي النِّصَابِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ الْخَارِصُ لِرَبِّ الْمَالِ مَا يَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ. وَالسَّبَبُ فِي اخْتِلَافِهِمْ: مَا يُعَارِضُ الْآثَارَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسِ. أَمَّا السُّنَّةُ فِي ذَلِكَ: فَمَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ: «أَنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا حَثْمَةَ خَارِصًا، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَبَا حَثْمَةَ قَدْ زَادَ عَلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ ابْنَ عَمِّكَ يَزْعُمُ أَنَّكَ زِدْتَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ تَرَكْتُ لَهُ قَدْرَ عَرِيَّةِ أَهْلِهِ وَمَا يُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ، وَمَا تُسْقِطُهُ الرِّيحُ، فَقَالَ: قَدْ زَادَكَ ابْنُ عَمِّكَ وَأَنْصَفَكَ». وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا خَرَصْتُمْ فَدَعُوا الثُّلُثَ، فَإِنْ لَمْ تَدَعُوا الثُّلُثَ فَدَعُوا الرُّبُعَ». وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَفِّفُوا فِي الْخَرْصِ، فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْعَرِيَّةَ وَالْآكِلَةَ وَالْوَصِيَّةَ وَالْعَامِلَ وَالنَّوَائِبَ وَمَا وَجَبَ فِي الثَّمَرِ مِنَ الْحَقِّ».
وَأَمَّا الْكِتَابُ الْمُعَارِضُ لِهَذِهِ الْآثَارِ وَالْقِيَاسُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ: فَلِأَنَّهُ مَالٌ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَصْلُهُ سَائِرُ الْأَمْوَالِ. فَهَذِهِ هِيَ الْمَسَائِلُ الْمَشْهُورَةُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِقَدْرِ الْوَاجِبِ فِي الزَّكَاةِ، وَالْوَاجِبِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الَّتِي الزَّكَاةُ مُخْرَجَةٌ مِنْ أَعْيَانِهَا، لَمْ يَخْتَلِفُوا أَنَّهَا إِذَا خَرَجَتْ مِنَ الْأَعْيَانِ أَنْفُسِهَا أَنَّهَا مُجْزِئَةٌ. وَاخْتَلَفُوا هَلْ يَجُوزُ فِيهَا أَنْ يُخْرِجَ بَدَلَ الْعَيْنِ الْقَيِّمَةَ أَوْ لَا يَجُوزُ؟
فَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: لَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْقِيَمِ فِي الزَّكَوَاتِ بَدَلَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الزَّكَوَاتِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ، سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَقْدِرْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلِ الزَّكَاةُ عِبَادَةٌ، أَوْ حَقٌّ وَاجِبٌ لِلْمَسَاكِينِ؟
فَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا عِبَادَةٌ قَالَ: إِنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْأَعْيَانِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ إِذَا أَتَى بِالْعِبَادَةِ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فَهِيَ فَاسِدَةٌ. وَمَنْ قَالَ: هِيَ حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالْعَيْنِ عِنْدَهُ. وَقَدْ قَالَتِ الشَّافِعِيَّةُ: لَنَا أَنْ نَقُولَ - وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهَا حَقٌّ لِلْمَسَاكِينِ-: إِنَّ الشَّارِعَ إِنَّمَا عَلَّقَ الْحَقَّ بِالْعَيْنِ قَصْدًا مِنْهُ لِتَشْرِيَكِ الْفُقَرَاءِ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي أَعْيَانِ الْأَمْوَالِ. وَالْحَنَفِيَّةُ تَقُولُ: إِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ أَعْيَانُ الْأَمْوَالِ تَسْهِيلًا عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ كُلَّ ذِي مَالٍ إِنَّمَا يَسْهُلُ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ مِنْ نَوْعِ الْمَالِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَثَرِ أَنَّهُ جَعَلَ فِي الدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ حُلَلًا - عَلَى مَا سَيَأْتِي فِي كِتَابِ الْحُدُودِ -.

.الْفَصْلُ السَّادِسُ فِي نِصَابِ الْعُرُوضِ:

وَالنِّصَابُ فِي الْعُرُوضِ عَلَى مَذْهَبِ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا اتُّخِذَ مِنْهَا لِلْبَيْعِ خَاصَّةً عَلَى مَا يُقَدَّرُ قَبْلُ، وَالنِّصَابُ فِيهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ: هُوَ النِّصَابُ فِي الْعَيْنِ، إِذْ كَانَتْ هَذِهِ هِيَ قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ وَرُءُوسُ الْأَمْوَالِ، وَكَذَلِكَ الْحَوْلُ فِي الْعُرُوضِ عِنْدَ الَّذِينَ أَوْجَبُوا الزَّكَاةَ فِي الْعُرُوضِ، فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا بَاعَ الْعُرُوضَ زَكَّاهُ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْحَالِ فِي الدَّيْنِ، وَذَلِكَ عِنْدَهُ فِي التَّاجِرِ الَّذِي تُضْبَطُ لَهُ أَوْقَاتُ شِرَاءِ عُرُوضِهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَنْضَبِطُ لَهُمْ وَقْتُ مَا يَبِيعُونَهُ وَلَا يَشْتَرُونَهُ وَهُمُ الَّذِينَ يَخُصُّونَ بِاسْمِ الْمُدِيرِ، فَحُكْمُ هَؤُلَاءِ عِنْدَ مَالِكٍ إِذَا حَالَ عَلَيْهِمُ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ ابْتِدَاءِ تِجَارَتِهِمْ إِلَى أَنْ يُقَوَّمَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعُرُوضِ، ثُمَّ يَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْعَيْنِ وَمَالُهُ مِنَ الدَّيْنِ الَّذِي يُرْتَجَى قَبْضُهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ فِي دَيْنِ غَيْرِ الْمُدِيرِ، فَإِذَا بَلَغَ مَا اجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصَابًا أَدَّى زَكَاتَهُ، وَسَوَاءٌ نَضَّ لَهُ فِي عَامِهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَيْنِ أَوْ لَمْ يَنِضَّ، بَلَغَ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَبْلُغْ نِصَابًا، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْهُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَاضٌّ وَكَانَ يَتَّجِرُ بِالْعُرُوضِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي الْعُرُوضِ شَيْءٌ. فَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ وُجُودَ النَّاضِّ عِنْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَهُ. وَالَّذِي شَرَطَهُ: مِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فِيهِ النِّصَابَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَازِنِيُّ: زَكَاةُ الْعُرُوضِ تَكُونُ مِنْ أَعْيَانِهَا لَا مِنْ أَثْمَانِهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ - الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَغَيْرُهُمْ-: الْمُدِيرُ وَغَيْرُ الْمُدِيرِ حُكْمُهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ مَنِ اشْتَرَى عَرَضًا لِلتِّجَارَةِ فَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ قَوَّمَهُ وَزَكَّاهُ.
وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ يُزَكِّي ثَمَنَهُ الَّذِي ابْتَاعَهُ بِهِ لَا قِيمَتَهُ. وَإِنَّمَا لَمْ يُوجِبِ الْجُمْهُورُ عَلَى الْمُدِيرِ شَيْئًا لِأَنَّ الْحَوْلَ إِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي عَيْنِ الْمَالِ لَا فِي نَوْعِهِ.
وَأَمَّا مَالِكٌ فَشَبَّهَ النَّوْعَ هَاهُنَا بِالْعَيْنِ لِئَلَّا تَسْقُطَ الزَّكَاةُ رَأْسًا عَنِ الْمُدِيرِ. وَهَذَا هُوَ بِأَنْ يَكُونَ شَرْعًا زَائِدًا أَشْبَهُ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ شَرْعًا مُسْتَنْبَطًا مِنْ شَرْعٍ ثَابِتٍ، وَمِثْلُ هَذَا هُوَ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ بِالْقِيَاسِ الْمُرْسَلِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يَسْتَنِدُ إِلَى أَصْلٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ إِلَّا مَا يُعْقَلُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ فِيهِ، وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْمَصَالِحَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَنِدْ إِلَى أُصُولٍ مَنْصُوصٍ عَلَيْهَا.

.الْجُمْلَةُ الرَّابِعَةُ فِي وَقْتِ الزَّكَاةِ:

وَأَمَّا وَقْتُ الزَّكَاةِ: فَإِنَّ جُمْهُورَ الْفُقَهَاءِ يَشْتَرِطُونَ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْمَاشِيَةِ الْحَوْلَ، لِثُبُوتِ ذَلِكَ عَنِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَلِانْتِشَارِهِ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلِانْتِشَارِ الْعَمَلِ بِهِ، وَلِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِانْتِشَارِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا عَنْ تَوْقِيفٍ. وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ». وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَلَيْسَ فِيهِ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ خِلَافٌ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاوِيَةَ.
وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ: أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ ثَابِتٌ.
وَاخْتَلَفُوا مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي مَسَائِلَ ثَمَانِيَةٍ مَشْهُورَةٍ:
إِحْدَاهَا: هَلْ يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي الْمَعْدِنِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ؟
الثَّانِيَةُ: فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ رِبْحِ الْمَالِ.
الثَّالِثَةُ: حَوْلُ الْفَوَائِدِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ.
الرَّابِعَةُ: فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ الدَّيْنِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ.
الْخَامِسَةُ: فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ الْعُرُوضِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ فِيهَا الزَّكَاةَ.
السَّادِسَةُ: فِي حَوْلِ فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ.
السَّابِعَةُ: فِي حَوْلِ نَسْلِ الْغَنَمِ إِذَا قُلْنَا إِنَّهَا تُضَمُّ إِلَى الْأُمَّهَاتِ، إِمَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يَشْتَرِطُ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّهَاتُ نِصَابًا، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَإِمَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ.
وَالثَّامِنَةُ: فِي جَوَازِ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْحَوْلِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الأُولَى]: [هَلْ يُشْتَرَطُ الْحَوْلُ فِي الْمَعْدِنِ]:

أَمَّا الْمَسْأَلَةُ الأُولَى: وَهِيَ الْمَعْدِنُ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَاعَى فِيهِ الْحَوْلَ مَعَ النِّصَابِ، وَأَمَّا مَالِكٌ فَرَاعَى فِيهِ النِّصَابَ دُونَ الْحَوْلِ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ شَبَهِهِ بَيْنَ مَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَبَيْنَ التِّبْرِ وَالْفِضَّةِ الْمُقْتَنَيَيْنِ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِمَا تُخْرِجُهُ الْأَرْضُ لَمْ يَعْتَبَرِ الْحَوْلَ فِيهِ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالتِّبْرِ وَالْفِضَّةِ الْمُقْتَنَيَيْنِ أَوْجَبَ الْحَوْلَ، وَتَشْبِيهُهُ بِالتِّبْرِ وَالْفِضَّةِ أَبْيَنُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ]: [فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ الْمَالِ]:

وَأَمَّا اعْتِبَارُ حَوْلِ رِبْحِ الْمَالِ فَإِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ:
فَرَأَى الشَّافِعِيُّ أَنَّ حَوْلَهُ يُعْتَبَرُ مِنْ يَوْمِ اسْتُفِيدَ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أَنْ لَا يُعَرِّضَ لِأَرْبَاحِ التِّجَارَةِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ. وَقَالَ مَالِكٌ: حَوْلُ الرِّبْحِ هُوَ حَوْلُ الْأَصْلِ، أَيْ إِذَا كَمُلَ لِلْأُصُولِ حَوْلٌ زَكَّى الرِّبْحَ مَعَهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ إِذَا بَلَغَ الْأَصْلَ مَعَ رِبْحِهِ نِصَابًا، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَمْ يُتَابِعْهُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ إِلَّا أَصْحَابُهُ. وَفَرَّقَ قَوْمٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ الْحَائِلُ عَلَيْهِ الْحَوْلُ نِصَابًا أَوْ لَا يَكُونُ فَقَالُوا: إِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّى الرِّبْحَ مَعَ رَأْسِ مَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُ نِصَابًا لَمْ يُزَكِّ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: تَرَدُّدُ الرِّبْحِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَالِ الْمُسْتَفَادِ أَوْ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْمَالِ الْمُسْتَفَادِ ابْتِدَاءً قَالَ: يُسْتَقْبَلُ بِهِ الْحَوْلُ، وَمَنْ شَبَّهَهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ قَالَ: حُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ، إِلَّا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ قَدْ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا إِذَا كَانَ نِصَابًا، وَلِذَلِكَ يَضْعُفُ قِيَاسُ الرِّبْحِ عَلَى الْأَصْلِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ هُوَ تَشْبِيهُ رِبْحِ الْمَالِ بِنَسْلِ الْغَنَمِ، لَكِنَّ نَسْلَ الْغَنَمِ مُخْتَلَفٌ أَيْضًا فِيهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِثْلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ.

.[الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ]: [حَوْلُ الْفَوَائِدِ الْوَارِدَةِ عَلَى مَالٍ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: وَهِيَ حَوْلُ الْفَوَائِدِ، فَإِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ إِذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَاسْتُفِيدَ إِلَيْهِ مَالٌ مِنْ غَيْرِ رِبْحِهِ يَكْمُلُ مِنْ مَجْمُوعِهِمَا نِصَابٌ، أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ كَمُلَ. وَاخْتَلَفُوا إِذَا اسْتَفَادَ مَالًا وَعِنْدَهُ نِصَابُ مَالٍ آخَرَ قَدْ حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ: فَقَالَ مَالِكٌ: يُزَكِّي الْمُسْتَفَادَ إِنْ كَانَ نِصَابًا لِحَوْلِهِ، وَلَا يُضَمُّ إِلَى الْمَالِ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَبِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْفَوَائِدِ قَالَ الشَّافِعِيُّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَالثَّوْرِيُّ: الْفَوَائِدُ كُلُّهَا تُزَكَّى بِحَوْلِ الْأَصْلِ إِذَا كَانَ الْأَصْلُ نِصَابًا، وَكَذَلِكَ الرِّبْحُ عِنْدَهُمْ.
وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمْ: هَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ الْمَالِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ؟
أَمْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَالٍ لَمْ يَرِدْ عَلَى مَالٍ آخَرَ؟
فَمَنْ قَالَ حُكْمُهُ حُكْمُ مَالٍ لَمْ يَرِدْ عَلَى مَالٍ آخَرَ؟
- أَعْنِي: مَالًا فِيهِ زَكَاةٌ - قَالَ: لَا زَكَاةَ فِي الْفَائِدَةِ، وَمَنْ جَعَلَ حُكْمَهُ حُكْمَ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ مَالٌ وَاحِدٌ قَالَ: إِذَا كَانَ فِي الْوَارِدِ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِكَوْنِهِ نِصَابًا اعْتَبَرَ حَوْلَهُ بِحَوْلِ الْمَالِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ. وَعُمُومُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» يَقْتَضِي أَنْ لَا يُضَافَ مَالٌ إِلَى مَالٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ، وَكَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اعْتَمَدَ فِي هَذَا قِيَاسَ النَّاضِّ عَلَى الْمَاشِيَةِ، وَمِنْ أَصْلِهِ الَّذِي يَعْتَمِدُهُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْحَوْلِ أَنْ يُوجَدَ الْمَالُ نِصَابًا فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ، بَلْ أَنْ يُوجَدَ نِصَابًا فِي طَرَفَيْهِ فَقَطْ وَبَعْضًا مِنْهُ فِي كُلِّهِ، فَعِنْدَهُ أَنَّهُ إِذَا كَانَ مَالٌ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ نِصَابًا، ثُمَّ هَلَكَ بَعْضُهُ فَصَارَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، ثُمَّ اسْتَفَادَ مَالًا فِي آخِرِ الْحَوْلِ صَارَ بِهِ نِصَابًا أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهَذَا عِنْدَهُ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْحَوْلَ، وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَجْزَائِهِ مَالٌ وَاحِدٌ بِعَيْنِهِ، بَلْ زَادَ وَلَكِنْ أُلْفِيَ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ نِصَابًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَوْلَ الَّذِي اشْتُرِطَ فِي الْمَالِ إِنَّمَا هُوَ فِي مَالٍ مُعَيَّنٍ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ لَا بِرِبْحٍ وَلَا بِفَائِدَةٍ وَلَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْحَوْلِ هُوَ كَوْنُ الْمَالِ فَضْلَةً مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا بَقِيَ حَوْلًا عِنْدَ الْمَالِكِ لَمْ يَتَغَيَّرْ عِنْدَهُ فَلَيْسَ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهِ، فَجَعَلَ فِيهِ الزَّكَاةَ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ إِنَّمَا هِيَ فِي فُضُولِ الْأَمْوَالِ.
وَأَمَّا مَنْ رَأَى أَنَّ اشْتِرَاطَ الْحَوْلِ فِي الْمَالِ إِنَّمَا سَبَبُهُ النَّمَاءُ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَقُولَ: تُضَمُّ الْفَوَائِدُ فَضْلًا عَنِ الْأَرْبَاحِ إِلَى الْأُصُولِ، وَأَنْ يُعْتَبَرَ النِّصَابُ فِي طَرَفَيِ الْحَوْلِ، فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ بَيِّنٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِذَلِكَ رَأَى مَالِكٌ أَنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مَاشِيَةٌ تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ ثُمَّ بَاعَهَا وَأَبْدَلَهَا فِي آخِرِ الْحَوْلِ بِمَاشِيَةٍ مِنْ نَوْعِهَا أَنَّهَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ أَيْضًا طَرَفَيِ الْحَوْلِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَأَخَذَ أَيْضًا مَا اعْتَمَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي فَائِدَةِ النَّاضِّ الْقِيَاسَ عَلَى فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ عَلَى مَا قُلْنَاهُ.

.[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ]: [فِي اعْتِبَارِ حَوْلِ الدَّيْنِ]:

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ - وَهِيَ اعْتِبَارُ حَوْلِ الدَّيْنِ إِذَا قُلْنَا إِنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ: فَإِنَّ قَوْمًا قَالُوا: يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ أَوَّلِ مَا كَانَ دَيْنًا يُزَكِّيهِ لِعِدَّةِ ذَلِكَ، إِنْ كَانَ حَوْلًا فَحَوْلٌ، وَإِنْ كَانَ أَحْوَالًا فَأَحْوَالٌ - أَعْنِي: أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَوْلًا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَإِنَّ أَحْوَالًا وَجَبَتَ فِيهِ الزَّكَاةُ لِعِدَّةِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ. - وَقَوْمٌ قَالُوا: يُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ أَقَامَ الدَّيْنَ أَحْوَالًا عِنْدَ الَّذِي عِنْدَهُ الدَّيْنُ. وَقَوْمٌ قَالُوا: يُسْتَقْبَلُ بِهِ الْحَوْلُ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: يَسْتَقْبِلُ بِالدَّيْنِ الْحَوْلَ مِنْ يَوْمِ قُبِضَ فَلَمْ يَقُلْ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِي الدَّيْنِ. وَمَنْ قَالَ فِيهِ: الزَّكَاةُ بِعَدَدِ الْأَحْوَالِ الَّتِي أَقَامَ فَمَصِيرًا إِلَى تَشْبِيهِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ الْحَاضِرِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: الزَّكَاةُ فِيهِ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَقَامَ أَحْوَالًا، فَلَا أَعْرِفُ لَهُ مُسْتَنَدًا فِي وَقْتِي هَذَا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مَا دَامَ دَيْنًا أَنْ يَقُولَ: إِنْ فِيهِ زَكَاةً أَوْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَا كَلَامَ بَلْ يُسْتَأْنِفُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ زَكَاةٌ فَلَا يَخْلُو أَنْ يُشْتَرَطَ فِيهَا الْحَوْلُ أَوْ لَا يُشْتَرَطَ ذَلِكَ، فَإِنِ اشْتَرَطْنَا وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَ عَدَدُ الْأَحْوَالِ إِلَّا أَنْ يَقُولَ كُلَّمَا انْقَضَى حَوْلٌ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ أَدَائِهِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ الْحَقُّ اللَّازِمُ فِي ذَلِكَ الْحَوْلِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ بِشَرْطَيْنِ: حُضُورِ عَيْنِ الْمَالِ، وَحُلُولِ الْحَوْلِ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا حَقُّ الْعَامِ الْأَخِيرِ، وَهَذَا يُشَبِّهُهُ مَالِكٌ بِالْعُرُوضِ الَّتِي لِلتِّجَارَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ عِنْدَهُ فِيهَا زَكَاةٌ إِلَّا إِذَا بَاعَهَا وَإِنْ أَقَامَتْ عِنْدَهُ أَحْوَالًا كَثِيرَةً، وَفِيهِ مَا شُبِّهَ بِالْمَاشِيَةِ الَّتِي لَا يَأْتِي السَّاعِي أَعْوَامًا إِلَيْهَا ثُمَّ يَأْتِي فَيَجِدُهَا قَدِ انْقَضَتْ، فَإِنَّهُ يُزَكِّي عَلَى مَذْهَبِ مَالَكٍ الَّذِي وُجِدَ فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَنْ حَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إِخْرَاجِ الزَّكَاةِ إِذْ كَانَ مَجِيءُ السَّاعِي شَرْطًا عِنْدَهُ فِي إِخْرَاجِهَا مَعَ حُلُولِ الْحَوْلِ سَقَطَ عَنْهُ حَقُّ ذَلِكَ الْحَوْلِ الْحَاضِرِ وَحُوسِبَ بِهِ فِي الْأَعْوَامِ السَّالِفَةِ، كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إِذَا كَانَتْ مِمَّا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَهُوَ شَيْءٌ يَجْرِي عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ مَالِكٌ فِيهِ الْعَمَلَ.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ: فَيَرَاهُ ضَامِنًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مَجِيءُ السَّاعِي شَرْطًا عِنْدَهُ فِي الْوُجُوبِ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا بِأَنْ يَدْفَعَهَا إِلَى الْإِمَامِ فَعُدِمَ الْإِمَامُ، أَوْ عُدِمَ الْإِمَامُ الْعَادِلُ إِنْ كَانَ مِمَّنْ شَرَطَ الْعَدَالَةَ فِي ذَلِكَ، أَنَّهُ إِذَا هَلَكَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ وَقَبْلَ التَّمَكُّنِ مِنْ دَفْعِهَا إِلَى الْإِمَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمَالِكٌ تَنْقَسِمُ عِنْدَهُ زَكَاةُ الدُّيُونِ لِهَذِهِ الْأَحْوَالِ - أَعْنِي: أَنَّ مِنَ الدُّيُونِ عِنْدَهُ مَا يُزَكَّى لِعَامٍ وَاحِدٍ فَقَطْ مِثْلُ دُيُونِ التِّجَارَةِ، وَمِنْهَا مَا يُسْتَقْبَلُ بِهَا الْحَوْلُ مِثْلُ دُيُونِ الْمَوَارِيثِ وَالثَّالِثُ دَيْنُ الْمُدِيرِ - وَتَحْصِيلُ قَوْلِهِ فِي الدُّيُونِ لَيْسَ بِغَرَضِنَا.